علم الفرائض
النظر في العلوم الدقيقة يفتق الذهن ويدر به ويقويه على العلم فيصير مثل كثرة الرمي بالنشاب وركوب الخيل تعين على قوة الرمي والركوب وإن لم يكن ذلك وقت قتال وهذا مقصد حسن. ولهذا كان كثير من علماء السنة يرغب في النظر في العلوم الصادقة الدقيقة كالجبر والمقابلة وعويص الفرائض والوصايا والدور لشحذ الذهن فانه علم صحيح في نفسه ولهذا يسمى الرياضي فان لفظ الرياضة يستعمل في ثلاثة أنواع في رياضة الأبدان بالحركة والمشي كما يذكر ذلك الأطباء وغيرهم وفي رياضة النفوس بالأخلاق الحسنة المعتدلة والآداب المحمودة وفي رياضة الأذهان بمعرفة دقيق العلم والبحث عن الأمور الغامضة. ويروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: “إذا لهوتم فالهوا بالرمي وإذا تحدثتم فتحدثوا بالفرائض”. أراد إذا لهوا بعمل أن يلهوا بعمل ينفعهم في دينهم وهو الرمي وإذا لهوا بكلام لهوا بكلام ينفعهم أيضا عقلهم ودينهم وهو الفرائض.
علم الفرائض نوعان: أحكام وحساب فالأحكام ثلاثة أنواع: أحدها: علم الأحكام على مذهب بعض الفقهاء وهذا أولها ويليه علم أقاويل الصحابة والعلماء فيما اختلف فيه منها ويليه علم أدلة ذلك من الكتاب والسنة. وأما علم حساب الفرائض فمعرفة أصول المسائل وتصحيحها والمناسخات وقسمة التركات وللفرائض في ذلك طريق معلومة وكتب مصنفة وهذا الثاني كله علم معقول يعلم بالعقل كما يعلم بالعقل سائر حساب المعاملات وغير ذلك من الأنواع التي يحتاجها إليها الناس. ثم قد ذكروا حساب المجهولات الملقب بحساب الجبر والمقابلة وهو علم قديم لكن إدخاله في الوصايا والدور ونحو ذلك أول من عرف أنه أدخله في ذلك محمد بن موسى الخوارزمي وبعض الناس يذكر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه تكلم في ذلك وانه تعلم زيادة ذلك من يهودي وهذا كذب على علي رضي الله ونحن قد بينا في الكتاب المصنف في الدور لما ذكرنا فيه أن لفظ الدور يقال على ثلاثة أنواع: الدور الكوني الذي يذكر في الأدلة العقلية أنه لا يكون هذا حتى يكون هذا ولا يكون هذا حتى يكون هذا وطائفة من النظار كالرازي يقولون هو ممتنع والصواب أنه نوعان كما يقوله الآمدي وغيره دور قبلي ودور معي في الدور القبلي ممتنع والدور المعى ممكن. ف الدور القبلي الذي يذكر في العلل وفي الفاعل والمؤثر ونحو ذلك مثل أن يقال لا يجوز أن يكون كل من الشيئين فاعلا للآخر لأنه يفضى إلى الدور. وهو أن يكون هذا قبل ذاك وذاك قبل هذا وذاك فاعل لهذا وهذا فاعل لذاك فيكون الشيء فاعلا لفاعله ويكون قبل قبله وقد اورد الرازي وغيره عليه إشكالات ذكرناها وبينا وجه حلها طرق إثبات الصانع. وأما الدور المعى فهو كدور الشرط مع الشروط وأحد المتضائفين مع الآخر إذا قيل صفات الرب لا تكون إلا مع ذاته ولا تكون ذاته إلا مع صفاته فهذا صحيح وكذلك إذا قيل لا تكون الأبوة إلا مع النبوة ولا تكون النبوة إلا مع الأبوة. والنوع الثاني: مما يسمى دورا الدور الحكمى الفقهي المذكور في المسألة السريجية وغيرها وقد أفردنا في هذا مصنفات وبينا حقيقة هذا الدور وأنه باطل عقلا وشرعا وبينا في مصنف آخر هل في الشريعة شيء من هذا الدور أم لا. والنوع الثالث: الدور الحسابي وهو أن يقال لا يعلم هذا حتى يعلم هذا فهذا هو الذي يطلب حله بحساب الجبر والمقابلة فنحن قد بينا أن شريعة الإسلام ومعرفتها ليست موقوفة على شيء يتعلم من غير المسلمين أصلا وإن كان طريقا صحيحا بل طريق الجبر والمقابلة فيها تطويل يغنى الله عنه بغيره كما ذكرنا في المنطق. وهكذا كل ما بعث به الرسول صلى الله عليه وسلم مثل العلم بجهة القبلة والعلم بمواقيت الصلاة والعلم بطلوع الفجر والعلم بالهلال فكل هاذ يمكن العلم به بالطرق المعروفة التي كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان يسلكونها ولا يحتاج معها إلى شيء آخر وإن كان كثير من الناس قد أحدثوا طرقا أخر وكثير منهم يظن أنه لا يمكن المعرفة بالشريعة إلا بها وهذا من جهلهم.” انظر الرد على المنطقيين صـ٢٥٥
🖊 أ. د. عبد السلام بن سالم السحيمي